المبادرة الزراعية والأمن الغذائي

نشر في ملحق المبادرة الزراعية الصادر في جريدة البيان العدد 1237 في 25/8/2013 بمناسبة مرور خمسة سنوات على انطلاق المبادرة الزراعية للحكومة العراقية .

محمد شريف أبو ميسم*

لم يكن مخططا "بحسب ما معلن " أن تكون المبادرة الزراعية بديلا عن ستراتيجيات الوزارات القطاعية للارتقاء بواقع القطاع الزراعي المتهالك جراء السياسات السابقة .. ولم يكن مخططا لها أن تحقق الأمن الغذائي النسبي على الرغم من أهميتها في التأسيس لذلك.. لأن الكارثة التي خلفتها لنا السياسات السابقة كانت تحتاج الى أموال وبرامج لايمكن لتخصيصات بمستوى 500 مليون دولار في العام 2008 وبرامج آنية على مدى عام أو بضعة أعوام أن تساهم في وضع الخطوات الأولى لمعالجة تداعياتها الموروثة .

فما خلفته الكارثة لا ينحصر عند مغادرة الفلاح لأرضه بحثا عن قوت عياله، ولا يقتصر على ضعف الحال وقلة المال وعري العيال ، انما يمتد بالأصل الى شح المياه وانحسار خصوبة التربة جراء ارتفاع نسب التملح بعد استخدام مياه المصب العام للري وانحباس المبازل الفرعية وزحف التصحر وتجريف البساتين وتجفيف الأهوار وهلاك الأسماك وانحسار أعداد المجترات والماشية والطيور.

وعلى هذا جائت المبادرة الزراعية لتعالج ما خلفته التداعيات الموروثة على الفلاح، وليس لمعالجة التداعيات ذاتها ، لأن أمر هذه الأخيرة يحتاج الى المزيد من الوقت والخطط والمال .

بيد ان الذي حصل كان أكبر من كل التوقعات ، فالمبادرة وفي حلقتها الاقراضية تحديدا لعبت دورا كبيرا في اعادة الحياة الى الريف ( بجانب دور كل المؤسسات القطاعية الأخرى التي ساهمت في تشكيل واقع الريف العراقي الجديد ) .. لأنها ساهمت في اعادة توطين الفلاح بعد أن قدمت له المال ومدخلات العملية الزراعية ودعمت المخرجات.. واذا ما تفحصنا البيانات المتعلقة بكميات الحنطة المنتجة هذا العام على الرغم مما سببته السيول الناجمة عن الأمطار الغزيرة في جنوب البلاد في الفترة الأخيرة ، فاننا وبحق نكون ازاء نتائج مبهرة فيما يتعلق بمشروع الأمن الغذائي الذي تبنته الجهات ذات العلاقة وساهمت فيه المبادرة الزراعية مساهمة كبيرة.

ويقصد بالأمن الغذائي "إنتاج الغذاء داخل الدولة الواحدة بما يعادل أو يفوق الطلب المحلي" ويعد هذا المفهوم ، مفهوما مطلقا، اذ انه مرادف للاكتفاء الذاتي الكامل ويعرف ايضا بالأمن الغذائي الذاتي..فيما يكون الأمن الغذائي النسبي "قدرة دولة ما أو مجموعة من الدول على توفير السلع والمواد الغذائية كلياً أو جزئيا" وضمان الحد الأدنى من تلك الاحتياجات بانتظام .. وبناء على هذا التعريف فإن مفهوم الأمن الغذائي النسبي يعني بالضرورة انتاج الاحتياجات الغذائية الأساسية بل يقصد به أساسا توفير المواد اللازمة لتوفير الاحتياجات من خلال منتجات أخرى يتمتع فيها البلد.

اذ تؤكد وزارة التجارة ان انتاج البلاد من القمح تجاوز 3 ملايين طن هذا العام على الرغم مما قيل عن الخسائر الناجمة عن الأمطار الغزيرة في جنوب البلاد في الفترة الأخيرة والتي قدرت بنحو 25 و30 بالمئة من محصول القمح .

وتعد محاصيل الحبوب ، وتحديدا منها الحنطة والشعير ركيزة مهمة من ركائز الأمن الغذائي بوصفها مصدرا رئيسيا لمادة غذائية أساسية ( وهي الخبز) .

وعلى الرغم من ان حاجة البلاد تقدر بنحو أربعة ملايين طن سنويا من الحنطة ، الا ان معدل الانتاج هذا العام سجل سابقة لم تحدث خلال الأعوام الماضية، حيث لم يتجاوز الانتاج 2.4 مليون طن في أفضل الأحوال لغاية العام 2012 بعد مرور خمسة سنوات على انطلاق العمل بالمبادرة الزراعية في العام 2008 .. وجاء الارتفاع في الانتاج هذا العام ليشكل بداية طيبة لتحقيق الأمن الغذائي النسبي .

وبناء عليه وبحسب ما متاح من امكانيات ، فان باستطاعت العراق تحقيق الأمن الغذائي النسبي فيما يتعلق بالمحاصيل الستراتيجية في المدى القريب " مثلما نجح فيما يتعلق بانتاج الخضر على ضوء ما أعلنته وزارة الزراعة مؤخرا " وجائت نتائج انتاج الحبوب هذا العام لتؤكد قدرة الجهات ذات العلاقة على تحقيق الهدف المعلن .

من جانب آخر تشهد الأسواق العراقية رواجاً كبيراً في حركة التبضع للمنتجات المحلية كالخضروات والفواكه واللحوم الحمراء والبيضاء تزامناً مع بدء شهر رمضان المبارك والتي ملئت الأسواق في مؤشر يعكس ارتفاع المنتجات الزراعية النباتية والحيوانية في هذا العام على عكس الأعوام الماضية حيث تتصدر الخضروات ولحوم الأغنام والأسماك المنتجات المحلية.

ونقل عن الوكيل الفني في وزارة الزراعة مهدي ضمد القيسي إن" الوزارة نجحت في الوصول إلى الاكتفاء الذاتي هذا العام وتمكنت من إيقاف الاستيراد للفواكه والخضروات". فيما يزداد الطلب على اللحوم الحمراء المحلية مع ازدياد معدل نصيب الفرد الواحد من الناتج المحلي الاجمالي .

اذ ان مؤشرات استهلاك اللحوم الحمراء تتصاعد مع تعدد المناسبات الدينية التي يكثر فيها نحر الماشية والمجترات ، والتي ازدادت مظاهر احيائها بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة مع ازدياد دخول المواطنين وتزايد الاقبال على اللحوم الحمراء المحلية في الاستهلاك اليومي.. ما يشير الى نمو متصاعد في حلقة تربية وتجارة الماشية والمجترات المحلية .

وبالتالي فإن المفهوم النسبي للأمن الغذائي الذي يؤسس على ثلاثة مرتكزات وهي "وفرة السلع الغذائية ووجودها في السوق بشكل دائم.،وأن تكون أسعارها في متناول المواطنين" بدأ يتحقق بمساهمة كبيرة مما أفرزته المبادرة الزراعية ، خصوصا وان النمط الاستهلاكي يدفع باتجاه تزايد الطلب على المنتجات المحلية دون غيرها .

وعلى هذا بدأنا نسمع في وسائل الاعلام ، ان الجهات القائمة على برامج المبادرة الزراعية، تؤكد وجود "خطة طويلة الأمد لدعم القطاع الزراعي بدأت في 2008 للوصول إلى الاكتفاء الذاتي خلال 10 أعوام".

* باحث اقتصادي / مدير العلاقات والاعلام في المصرف الزراعي